قوله: "باب ما جاء فيمن لم يقنع بالحلف بالله" يعني: ما جاء فيه من الوعيد، وأنه ينقص التوحيد، لأن الذي لا يقنع بالحلف بالله لا يعظم الله سبحانه وتعالى حق التعظيم ، لأنه لو كان يعظم الله حق التعظيم لرضي بالحلف به، فكونه لا يرضى ولا يقنع بالحلف بالله دليل على نقصان تعظيمه لله، وهذا ينقص التوحيد، كما أن كمال تعظيم الله كمال في التوحيد .
هذا وجه المناسبة لعقد هذا الباب في كتاب التوحيد .
ثم ذكر الحديث عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: صحيح البخاري الْمَنَاقِبِ (3624) ، صحيح مسلم الْأَيْمَانِ (1646) ، سنن النسائي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ (3764) ، مسند أحمد (2/98). لا تحلفوا بآبائكم سبق في الباب الذي قبله النهي عن الحلف بغير الله وأنه شرك أو كفر، كما قال صلى الله عليه وسلم: سنن الترمذي النُّذُورِ وَالْأَيْمَانِ (1535) ، سنن أبي داود الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ (3251) ، مسند أحمد (2/69). من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك لأن الحلف تعظيم للمحلوف به ، ومن عظم غير الله بالحلف به، فإن هذا شرك بالله عز وجل، وهو يختلف باختلاف الحالفين: من كان يعظم المحلوف به كما يعظم الله فهو شرك أكبر، ومن كان لا يعظمه كتعظيم الله بل عنده نوع تعظيم لا يساوي تعظيم الله، فإنه يكون شركا أصغر .
وقوله صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الْمَنَاقِبِ (3624) ، صحيح مسلم الْأَيْمَانِ (1646) ، سنن النسائي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ (3764) ، مسند أحمد (2/98). لا تحلفوا بآبائكم ليس هذا خاصا بالآباء، فالحلف بغير الله لا يجوز، سواء كان بالآباء أو بغيرهم، وسواء كان بالآدميين من الرسل والصالحين، أو كان بالكعبة، أو غير ذلك، فالمخلوق لا يجوز له أن يحلف إلا بالله عز وجل، فذكره الآباء هو من باب ذكر بعض أفراد المنهي عنه، لأن عادتهم أن يحلفوا بالآباء .
قوله: سنن ابن ماجه الْكَفَّارَاتِ (2101). ومن حلف بالله فليصدق هذا أمر من النبي صلى الله عليه وسلم أن الحالف بالله يجب عليه أن يصدق فلا يحلف بالله كاذبا، لأن من حلف بالله وهو كاذب فقد استهان [ ج- 2][ص-166] بعظمة الله سبحانه وتعالى، وإذا انضاف إلى ذلك: أن يأخذ مالا بغير حق بموجب هذه اليمين، فهي يمين فاجرة، يقتطع بها مال امرئ مسلم .
والحلف بالله كاذبا هي اليمين الغموس سميت بذلك لأنها تغمس صاحبها في الإثم ثم في النار - والعياذ بالله - كالذي يحلف على السلع في البيع والشراء أنها جيدة، وهي ليست كذلك، أو أنها سليمة وهي ليست كذلك، أو أن قيمتها كذا وكذا، ليرغب الناس فيها وهو كاذب، فإذا حلف على أمر ماض كاذبا متعمدا فهذه هي اليمين الغموس، وهي كبيرة من كبائر الذنوب، لأن الكذب في حد ذاته كبيرة: قال الله تعالى: سورة آل عمران الآية 61 فَنَجْعَلْ لَعْنَةَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ وقال تعالى: سورة النحل الآية 105 إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ فالكذب في حد ذاته كبيرة، فإذا انضاف إليه يمين كاذبة صار أشد وأعظم، وجاء في الحديث: صحيح مسلم الْإِيمَانِ (106) ، سنن النسائي الْبُيُوعِ (4458) ، سنن أبي داود اللِّبَاسِ (4087) ، سنن ابن ماجه التِّجَارَاتِ (2208) ، مسند أحمد (5/178) ، سنن الدارمي الْبُيُوعِ (2605). ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة، ولا ينظر إليهم، ولا يزكيهم، ولهم عذاب أليم: المسبل، والمنان، والمنفق سلعته باليمين الكاذبة .
وقوله: سنن ابن ماجه الْكَفَّارَاتِ (2101). ومن حلف له بالله فليرض هذا محل الشاهد من الحديث للباب، ومعناه: فليرض باليمين بالله تعظيما لله سبحانه، وهذا يدل على كمال التوحيد . ثم الحالف إن كان صادقا فهو على ما حلف، وإن كان كاذبا فإثمه عليه .
قوله: ومن لم يرض فليس من الله" هذه براءة من الله ممن لم يقنع بالحلف به، وهذا وعيد شديد .
فيجب تعظيم اليمين بالله والرضا بها سواء كانت في الخصومات أو كانت في الاعتذارات، فالمسلم يحسن الظن بأخيه المسلم .
وهذا الحديث يدل على مسائل:
المسألة الأولى: تحريم الحلف بغير الله، لقوله صلى الله عليه وسلم: صحيح البخاري الْمَنَاقِبِ (3624) ، صحيح مسلم الْأَيْمَانِ (1646) ، سنن النسائي الْأَيْمَانِ وَالنُّذُورِ (3764) ، مسند أحمد (2/98). لا تحلفوا بآبائكم .
والمسألة الثانية: وجوب الصدق في الأيمان وعدم الكذب فيها، لأن الصدق في الأيمان تعظيم لله سبحانه وتعالى، وتعظيم لعهده .
والمسألة الثالثة: وجوب القناعة بالحلف بالله، وتحريم عدم القناعة بالحلف بالله، لأن ذلك تعظيم لجانب الله سبحانه وتعالى، وثقة بالحلف به، وأن لا يستهان باليمين بالله، لا من الحالف ولا من المحلوف له، بل تعظم من الجانبين، وهذا من حقوق التوحيد، وعدمه من نقصان التوحيد .